جولة مع النيل
وقف التلاميذ ومعهم زملاء آخرين وبعض أساتذتهم فى الجغرافيا والتاريخ يتأملون سير النهر ، حيث كانوا يقفون على كورنيش النيل فى منطقة حلوان ، حيث يجرى النيل هادئاً مبتسماً حاملاً الخير والبشر والحيوية ، وحاملا الحياة معه لسكان الوادى .
ولاحظ البعض أن مياه النيل تجرى صافية فقالوا لأستاذهم :
- هل تكون مياه النيل دائماً صافية هكذا يا أستاذ ؟
أجاب :
- لا .. فالنيل يكون صافياً فى هذه الأيام فقط ، أيام فصل الشتاء أما فى فصل الصيف والخريف ، فيكون لون المياه مائلاً إلى الحمرة ، ذلك بسبب الطمى الذى يحمله من هضبة الحبشة ، وإن كان هذا الطمى قد خف كثيراً بسبب احتجازه خلف السد العالى ، حيث يترسب الطمى فى بحيرة ناصر الكبرى جنوب هذا السد .
فالأمطار حين تنزل على هضبة الحبشة تجرف معها بعض ذرات الصخور السمراء وتنحت هذه الصخور حاملة معها بعض هذه الذرات فيتغير لون المياه إلى الأسود أو الأحمر الداكن .
أما عن هذه الصخور الموجودة فى هضبة الحبشة ، فهي عبارة عن بازلت وجرانيت ( جرانيت وردى وبازلت أسود) ، أما هذا الطمى فله أهمية قصوى فى تجديد شباب التربة التى نزرعها ، فهو يغنيها ويخصبها ويقوى بنائها ، كالفيتامينات والبروتينات بالنسبة لجسم الإنسان .
وتساءل التلاميذ أيضاً :
- لماذا نجد المياه قليلة هذه الأيام بالرغم من أننا فى فصل الشتاء ؟
فيرد الأستاذ :
- تختلف كمية المياه من الصيف إلى الشتاء ،فالأمطار التى تسقط على هضبة الحبشة ، وتعتبر المصدر الأول للمياه ، تبدأ فى شهر مايو حيث تسقط بغزارة شديدة ويستمر سقوطها طوال فصل الصيف ، عكس ما يسقط فى وادى مصر من أمطار فى فصل الشتاء ، لهذا تكون مياه النيل قليلة فى فصل الشتاء عكس بقية العام .
فتعجب لهذا التلاميذ ، وجاء الأتوبيس النهرى ، فاتجهوا اليه فى نظام وركبوا ، وجلسوا فى أماكنهم وهم يتأملون عن قرب شديد مياه النهر العظيم من خلال النوافذ ، وراح بعضهم يتساءل :
- لكن .. كيف نعرف الزيادة والنقصان فى نهر النيل يا أستاذ ؟!
ابتسم المدرس وقال :
- سؤال مهم حقا ، بعد قليل سنصل إلى أهم مقياس لمياه نهر النيل وهو مقياس الروضة وهو مقياس شهير ، وعلى فكرة ، لقد أقيم على طول مجرى النهر عدة مقاييس ، بلغت نحو 140 مقياساً ، لنتعرف من خلالها ما تسجله من أى زيادة أو نقصان فى مياه النيل.
والمقياس عبارة عن عمود يصنع من الرخام ، مدرج بأرقام ، يقام فى الماء على جانب النهر بقرب الشاطئ ، وتقرأ المقاييس يومياً ، وترسل فوراً إلى وزارة الرى ، لتحدد بدقة حركة سير المياه .
هذه المقاييس مثبتة على طول النهر ودائمة وأشهرها ، كما قلت ، مقياس الروضة بحى المنيل بالقاهرة .
وانطلق الأتوبيس النهرى ، يشق مياه النهر ، منطلقاً فى اتجاه الشمال نحو القناطر الخيرية ، وعندما شاهد التلاميذ بعض الأسماك وهى تتقافز على سطح المياه ، ولاحظ المدرس اهتمامهم الشديد بها قال لهم :
- إن نهر النيل ليس مجرد مياه للرى أو الشرب فقط ، بل هو مكان طبيعى لتربية الأسماك ، ففيها على سبيل المثال أسماك : البلطى - الوقار - السلمون - الثعابين النيلية ، كما يعيش فى نهر النيل بعض الحيوانات العجيبة خاصة فى نهر النيل الجنوبى مثل : " فرس النهر" الذى نسميه فى مصر " سيد قشطة" والذى ترونه فى حديقة الحيوانات ، وهناك التمساح النيلى ، الذى يعيش بكثرة فى الأدغال والأحراش المائية، جنوب السودان .
ولكن لا توجد فى مصر هذه الحيوانات الآن ، لوجود السد العالى وخزان أسوان ، فهما لا يسمحان لمثل هذه الحيوانات بالعبور إلى نهر النيل داخل مصر .
وتساءل التلاميذ عن اتساع عرض النهر عند نقطة معينة ، وسألوا المدرس :
- هل يكون النهر بمثل هذا العرض حتى مصبه فى البحر المتوسط ؟!
فقال لهم المدرس :
- نهر النيل يتفرع بعد القاهرة إلى فرعين رئيسيين :
الأول : فرع رشيد من جهة الغرب ، والثانى فرع دمياط من جهة الشرق ، ويصب كل منهما فى البحر المتوسط حيث تختلط المياه العذبة بمياه البحر المالحة .
وبالطبع يتفرع كل من فرع دمياط وفرع رشيد إلى العديد من الفروع الصغيرة ، فيما نطلق عليه أسماء : الرياحات ( جمع رياح) والترع والقنوات ، وتتوزع منها المياه على مختلف أرض مصر لريها وزراعتها ..
فالرياح : هو الذى يأخذ المياه مباشرة من النهر الأصلى ويغذى به الترع الأصغر منه ، وهناك الرياح التوفيقى الذى يروى الأرض التى تقع شرق فرع دمياط ، وتخرج منه ترعتا بحر موسى والبحر الصغير ، وهناك الرياح المنوفى الذى يروى الأرض الواقعة بين فرعى النيل ، ويتفرع منه بحر شبين ، وهناك الرياح البحرى الذى يروى الأراضى الواقعة غرب فرع رشيد ..
أما الترع فهى التى تأخذ مياهها من الرياحات وتغذى به القنوات الأصغر منها ، مثل ترعة الاسماعيلية والتى تبدأ من القاهرة وتتجه إلى فرعين : فرع إلى بورسعيد وآخر إلى السويس ، وهناك ترعة المحمودية ، وتبدأ من رشيد وتجرى حتى تصل إلى الاسكندرية وتروى أراضى محافظة البحيرة ، وهناك ترعة السوهاجية ، وتأخذ مياهها من النيل مباشرة عند محافظة سوهاج لتروى أراضى أسيوط وسوهاج ، أما ترعة الابراهيمية فتأخذ مياهها من النيل أيضا عند قناطر اسيوط وتروى معظم أراضى مصر الوسطى ، إنها شبكة من الترع يا أصدقائى لرى كل أراضى مصر وهى أثر من آثار الحضارة الحديثة فى بلادنا حيث شقت هذه الترع لتنظيم الرى منذ عهد محمد على وحتى الآن .
فاندهش التلاميذ ، لهذه الشبكة الكبرى التى تتفرع عن نهر النيل وراحوا يتأملون من جديد مياه النهر ، ولاحظوا الاتوبيس النهرى ينطلق أسفل كوبرى قصر النيل بالقاهرة ، فسألوا :
- وهذه الكبارى لاشك أنها عظيمة النفع والفائدة ، أليس كذلك يا أستاذ ؟
- نعم ، على فكرة ، يوجد على نهر النيل كبارى كثيرة أقيمت ليعبر الناس فوقها من ضفة إلى أخرى ، وتعبر فوقها المواصلات العامة والخاصة كالقطارات والسيارات .. الخ .
ومن أهم الكبارى فى الوجه البحرى : كوبرى القناطر الذى سنراه بعد قليل ، وكوبرى بنها ، وكوبرى زفتى الذى يصل بين مدينتين وهما : زفتى وميت غمر والذى فرقهما النيل ووصلهما الكوبرى ، وكوبرى طلخا الذى يربط بين المنصورة وطلخا ، وكوبرى كفر الزيات وكوبرى دسوق وغيرها ..
أما أهم كبارى القاهرة والجيزة ، فأشهرها كوبرى امبابة وكوبرى أبو العلا وكوبرى 6 أكتوبر ، وكوبرى قصر النيل وكوبرى الملك الصالح وكوبرى الجامعة وكوبرى الجلاء وكوبرى الزمالك ، وعلى فكرة ، كل الكبارى المقامة بالعاصمة على فرعى النيل اللذين يحيطان بجزيرة الزمالك والروضة ، ما عدا كوبرى امبابة فهو مقام على نهر النيل عند روض الفرج .
وبعض هذه الكبارى يتم فتحها لمرور السفن الشراعية من اسفلها وذلك إما فى وقت متأخر من الليل أو فى ساعة معينة بالنهار .
وتهتم بصيانة هذه الكبارى وزارة الأشغال والموارد المائية بالتعاون مع هيئة الطرق والكبارى المصرية .
ووصل الأتوبيس النهرى إلى مرحلة النهاية فى القناطر الخيرية ، فوجد التلاميذ القناطر عبارة عن عيون ضخمة تتدفق منها المياه وفوقها طرق تستخدم لعبور الناس والسيارات والدواب ، وأمام العيون بوابات ضخمة تحجز المياه خلفها ويتم فتحها عند الحاجة لهذه المياه للرى ..
فتساءل التلاميذ :
اذا كانت هذه هى القناطر بضخامتها فماذا تكون ضخامة السد العالى ؟
فأجابهم أستاذهم :
- القناطر الخيرية التى نقف أمامها الآن مقامة منذ نحو قرنين من الزمان ، أما الآن فتوجد قناطر إسنا وهى من الضخامة لدرجة أنها تبلغ ضعفى هذه القناطر ، أما عن خزان أسوان وقناطر إسنا وقناطر نجع حمادى وأسيوط ، وقناطر أخرى فى الدلتا ، فهى كلها بغرض حجز مياه النيل للاستفادة منها عند الضرورة ولتفادى خطر الفيضانات ، والقناطر إذن هى لتنظيم عملية الرى ، تفتح وتغلق وقت الحاجة ، حتى تصل المياه الى المستوى المطلوب وحسب الخطة المعمولة للرى .
أما السد العالى ، فهو أعظم إنجاز مصرى فى القرن العشرين ويعد أكبر السدود التى أقيمت على النيل حتى الآن ، بل أعظم السدود فى منطقة الشرق الأوسط كلها ، وبه تتجلى إرادة المصريين وسواعدهم ، التى تحدت إرادة الاستعمار .
ويقع خلف السد العالى بحيرة ناصر ، وهى أكبر بحيرة صناعية فى العالم ، ويطلق عليها بحيرة السد العالى أو بحيرة ناصر نسبة إلى الزعيم المصرى جمال عبد الناصر .
وتتولد من السد العالى نصف الطاقة الكهربائية التى تحتاجها مصر فضلا عن عمل السد الأساسى وهو التقليل من آثار الفيضان الذى كان يغرق القرى والحقول قبل بناء السد ، كما يعمل على حماية مصر - بإذن الله تعالى - من خطر الجفاف ، الذى عانت منه بعض بلاد أفريقيا .
فازداد إعجاب التلاميذ من عظمة النهر ، وتساءل تلميذ :
- لقد شاهدت منازل خشبية على ضفاف النيل فماذا عن هذه المنازل ؟
فأجاب الأستاذ :
- الناس أحبوا النهر ، كأنما أرادو الالتصاق به كالأسماك لا يحبون مفارقته ، ولهذا أقاموا لهم مساكن فوق سطحه ، أطلقوا عليها اسم عوامات وربطوها بضفتيه عند أماكن معينة ..
واستطرد الأستاذ :
- ولا تتعجب يا بنى ، فأغلب آثار المصريين بنيت على ضفاف النيل ، فالأهرامات وأبو الهول كانت قريبة جدا من النيل قديما ، ومعبد أبو سمبل فى أسوان ومعابد الأقصر كلها أقيمت على النيل أو قريبة منه ، أما عن هذه العوامات السكنية ، فهى كالسفن الكبيرة أقيمت على ضفتى النهر وتتربط بالضفة عن طريق حبال أو جنازيز حديدية ، وهى بالفعل تشوه جمال النيل .
واستمتع الأطفال برحلتهم النيلية وقضوا يوما رائعا بين الطبيعة الخلابة فى القناطر ، وعلى ضفاف النهر .
وفى أثناء عودتهم شاهدوا بعض الناس يلقون الحيوانات النافقة فى النيل ، بينما شاهدوا آخرين يغسلون الخيول والحمير والأغنام فى النهر، فتعجبوا واستنكروا ، فقال الأستاذ :
- المصريون القدماء كانوا حريصين على نظافة مياه النهر حتى أنهم نقشوا على جدران معابدهم وكتبوا : أنه فى يوم الحساب يقول المصرى لربه نافيا عن نفسه ارتكاب تهمة وجريمة كبيرة :
" أنا لم ألوث النهر "
ذلك لأن المحافظة على نظافة النهر كانت من أهم أسباب الحساب والنجاة من العقاب عند المصريين القدماء .
نعم .. لابد أن نحافظ على مياه نهر النيل من التلوث ، والقانون يمنع إلقاء الفضلات والنفايات والملوثات المختلفة فى المجرى حتى لا يتلوث وتشوبه الشوائب وتنتشر فيه البكتريا والفيروسات والكيماويات ، والمبيدات السامة التى تقضى على الأسماك وتهدد صحة الانسان والحيوان ، وتضر بالنبات أيضا أبلغ الضرر .
والدولة تعمل مافى وسعها لعدم إلقاء الصرف الصحى والصرف الزراعى، ونفايات المصانع والمخلفات المختلفة فى نهر النيل ، وعلينا جميعا مساعدة الدولة فى ذلك .
وعاد التلاميذ من رحلتهم النيلية مسرورين مبتهجين يرددون الأغانى والأناشيد الجميلة