نبذة عن المساجد
________________________________________
نبذة عن المساجد من كتاب القيمة الجمالية فى العمارة الإسلامية بقلم الدكتور ثروت عكاشة النشأة الأولى للعمارة الإسلامية على أن العمارة الإسلامية وقد نبتت فى بلاد مختلفة؛ لم تستلهم ثقافتها الأولى وحدها، بل تأثرت بكل بلد حلت فيه، فاختلفت العمارات باختلاف البيئات، وأصبح لكل بيئة آثرها فى عمارتها. فحيث كانت الصحراء نجد المبانى قد تأثرت بتلك البيئة الصحراوية، إلا فى مواقع قليلة تتراوح بين الأودية مثل وادى النيل ووادى دجلة والفرات، وبعض المناطق الجبلية المعشبة كاليمن وسوريا ولبنان، وبعض البلاد الباردة المناخ مثل تركيا. فهذه الصحراوات برمالها المنبسطة وتربتها المنفسحة وأرضها الجرداء التى لا ينبض فيها نبات ولا ماء ولا حيوان، وبسمائها الصافية بشمسها اللافحة نهارا، وبهلالها ونجومها المتألقة ليلاَ، قد أذكت الفكر فنشطت علوم الفلك والرياضة، كما أضفت على روح الفنان العربى أثرا أى أثر، فأثارت وجدانه، وألهمته أن يحكيه فيما يبدع وأن يطبع به ما ينشئ. من أجل ذلك جاءت العمارات تحكى ما يقع عليه البصر فى الأرض وما يمتد إليه الطرف فى السماء، فكانت تلك الأهلة التى توجت المآذن، ثم كانت تلك القباب التى تحكى قبة السماء. وكان للرياح الساخنة المحملة بالرمال الحارقة أثرها فى إنشاء الدول والمساكن، فأحيطت بجدران صماء تحميها من نفثات ذلك الحريق، على حين تركت صحونها مكشوفة عارية من السقوف كى تصل قاطنيها بتلك السماء التى كان البدوى يفزع إليها طلبا للغوث وهربا من الوحشة فلم يشأ أن يحجب ما بينه وبين مأوى روحه، إذ كان يعد تلك الفرجة فى سقف داره معبرة إلى السماء أو جزءا من السماء قد شده إلى بيته. وحدة الطابع الإسلامى: وكما كانت للبيئات الصحراوية أثرها فى توجيه الفن المعمارى وطبعه بطابع متميز يمثل تلك البيئة فى الكثير من مظاهرها، كذلك كانت للتعاليم التى نزل بها الدين الإسلامى هى الأخرى أثرها فى الفن المعمارى. فالإسلام يعد كل بقعة من الأرض طاهرة يجوز للمؤمن أن يؤدى ما فرضه الله من صلاة. لذا جاءت المساجد أول ما جاءت فى الإسلام صحونا متسعة تسور بجدران. وإذ كان لابد من أن يتجه المسلمون فى صلاتهم إلى قبلة بعينها، جاء بناء المساجد مرتبطا كل الإرتباط بهذا التوجيه الدينى. حمل فن العمارة فى ظل الإسلام تعبيرا معماريا جديدا، إذ ربط الفن المعمارى بين المسجد والكعبة فى مكة المكرمة، وتزاوج التعبير المعمارى الأول الذى أحسه ساكن البادية من صلته بالسماء من خلال صحن داره المكشوف مع التعبير المعمارى الجديد المستوحى من صلة العابد بالأرض. ومع اضطراد التحضر وهجر العرب للبادية واستيطانهم المدن وانتشار الإسلام بين الأمم ذات الحضارة والعمارة الحضرية كإيران والعراق، نشأ فن معمارى دينى حضرى للجوامع والمساجد والمدارس والمعتكفات [الخانقاوات أو التكايا] وغير ذلك من الأبنية الدينية. والفن المعمارى الإسلامى مع هذا الذى جد عليه لم يستطع أن يخلص من التأثرات الأولى ببيئته الصحراوية، فجاء فنا يجمع بين جديده الذى أفاده من المدن المتحضرة، وبين قديمه الذى علق به من آثار البيئة الصحراوية. كان الفن المعمارى الإسلامى يرتكز فى أول نشأته على العناصر المعمارية والزخرفية التى تتفق وروحانيته، فخرجت منجزاته تكاد تشبه بعضها بعضا فى سائر البلاد الإسلامية مع شئ من التباين اليسير الذى تحمله كل بيئة وتختص به وتمليه مواهب أهلها الموروثة إنشاء وعمارة وزخرفة وخبرة وتقاليد ومن هنا كان الإختلاف الهين الذى يميز عمارة الجوامع فى إيران بطغيان الناحية المعمارية الزخرفية كما نشهد فى مسجد شاه بأصفهان، وعلى حين تغلب الناحية المعمارية الهندسية فى مصر، كما هى الحال فى جامع السلطان حسن الذى نبع الشكل التعبيرى فيه من التكوين الإنشائى المعمارى، إذ ينبض الإحساس الدينى من واقع تصميم الفراغ، وليس من مجرد صقل السطح وزخرفته. وفى العراق نشهد ملوية سامراء متأثرة بأبراج الزيقورات السومرية والبابلية القديمة. أما فى تركيا فقد تأثرت العمارة الدينية بالعمارة البيزنطية حيث فرض المناخ أن يكون بيت الصلاة مسقوفا. وإذ كانت الجماهير تؤم المسجد للصلاة غفيرة تتطلب مسطحا فسيحا، فقد ابتكر المعاريون الأتراك طريقة التسقيف بالقباب والقبوات البيزنطية، ونجحوا عن طريقها فى التغلب على ما واجههم من مشكلات. وقد أخذ المسجد الأموى فى الشام بعض لمسات التشكيل الرومانى المسيحى، كما شاع الطراز الهندوكى فى العمارة الهندية الإسلامية، وهو الطراز المتميز بالزخارف المستوحاة من نباتات البيئة الهندية فى نحت الأحجار على غرار قطب منار. على حين تشترك العمارة فى بلاد المغرب والأندلس فى الكثير من صفات تشكيل الفراغ وتصميم الأعمدة المتراكبة وزخارف الجص المفرغ. وعلى الرغم من الإختلاف بين هذه العمارات فى بعض التفاصيل أو فى العناصر المعمارية الإنشائية كمنحنيات القباب والعقود والتكوينات المعمارية للمآذن أو بعض الزخارف، إلا أنها تشترك جميعها فى وحدة الروح الإسلامية الكامنة وراء التكوينات المعمارية والتشكيلات الزخرفية التى أصبحت تقليدا معماريا يحفظه البناءون عن ظهر قلب، وغدت هذه الأشكال الزخرفية والتكوينات والعناصر المعمارية وكأنها اللغة العربية التى نزل بها القرآن ويتلى بها فى كافة البلاد الإسلامية. ساعد على قيام وحدة الطابع الإسلامى ما كان من تشابه ظروف البيئة وارتباط بين لفظى العرب والإسلام وقيام الخلافة الإسلامية التى سيطرت على أكثر البلاد التى إعتنقت الدين الإسلامى، هذا إلى جانب أسباب وظيفية من الناحية المعمارية كوحدة البرنامج المعمارى فى الجوامع كلها نتيجة وحدة النظام فى الصلاة، الأمر الذى استعدى هذا التشابة فى التخطيط المعمارى. وكان من الطبيعى عند نزول الإسلام بتعاليمه التى تهدف إلى جمع الإنسانية كلها حول فكرة واحدة ألا يشتمل كل جامع على قدس أقداس خاص به، كما هى الحال فى المعابد الأولى، بل اجتزئ بقدس أقداس واحد يتجه إليه المسلمون كافة وهو الكعبة المشرفة، ومن ثم لزم أن يكون المسقط الأفقى ببيوت العبادة الإسلامية مستطيلا أكثر ما يكون انفساحا، ويواجه ضلعه الأطول مكة المكرمة حتى يستطيل "الصف" الذى يتلاحق فيه المصلون تأكيدا لفكرة المساواة بين جميع المسلمين الذين يصلون فى صف مستقيم وراء الإمام متجهين إلى القبلة، إذ كلما كان الصف قريبا من الإمام زاد ثواب المصلى. ولهذا أيضا قلما نجد أن المسقط الأفقى للجامع على شكل دائرة أو مثمن حتى لا يغيب إحساس المسلم بالإتجاه إلى الكعبة. وكما وجه المعمارى الإسلامى جدران المسجد نحو الكعبة كذلك وضع قبلة أو محرابا فى الجدار المقابل لإتجاه الكعبة على شكل حنية تعلوها نصف قبة. وفى شكل هذا المحراب وفكرته الرمزية ما يذكرنا "بعتبة الأبدية" التى أقامها المصريون القدامى فى مقابرهم كى تنفذ منها الروح إلى العالم الأبدى. وهكذا كانت الحال مع القبلة، فالمتعبد إذا لم يستطع أن ينتهى إلى الكعبة بجسده فلا أقل من أن ينتهى إليها بروحه من خلال المحراب الرمزى. جمل المعمارى حوافى أسطح جدران الصحن بعرائس أو شرافات متجاورة تتجه روءسها إلى أعلى، موحيا بارتباط الأرض بالسماء أو بتلاصق المسلمين سواسية كأسنان المشط أمام الله. ويرجع أصل هذه العرائس إلى العمارة الساسانية كما هى الحال فى طاق كسرى [950 – 628 م]. حقق المعمارى المسلم فكرة الإتجاه لأعلى بطريقة درامية فى إبتكاره للمئذنة حتى يعلو صوت المؤذن وهو ينادى للصلاة على كل ما عداه من أصوات ويصبح نغم "الله أكبر" ملء الأسماع على طول المدى. ولا شك أن المعمارى المسلم لم يخلو فكره من دراية سيكولوجية حين قسم المئذنة صعودا إلى عدة أقسام تفصلها شرفات تتناقص فى الطول كلما ارتفعنا، وكأنى به قد أراد أن يجذب نظر المشاهد إلى أعلى قسرا، ويصب فى وجدانه الإحساس بجلال المبنى ورفعته، وهكذا يقصر بعد كل شرفة كلما صعدنا لأعلى وفق قاعدة "النسبة الذهبية" التى اتخذها الإغريق أساسا.