قصة نبي الله يوشع
شرع الله عز وجل الجهاد والقتال في سبيله لمقاصد عظيمة , وغايات نبيلة , من إعزاز الدين , وتعبيد الناس لله رب العالمين , وإزالة الحواجز والقيود التي تحول بين الناس وبين الدعوة وقيام الحجة , ليهلك من هلك عن بينة , ويحيا من حي عن بينة , إلى غير ذلك من المقاصد , والجهاد عبادة كغيرها من العبادات , تحتاج لكي تؤتي أكلها , ويجني العبد ثمارها ألا يقدم عليها إلا وهو في حالة من التهيؤ النفسي , والتفرغ القلبي من الشواغل والملهيات التي تحول بينه وبين أداء هذه العبادة وتحقيق مقاصدها على الوجه الأكمل , وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا قصة نبي من الأنبياء خرج للجهاد والغزو , والقصة أخرجها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غزا نبي من الأنبياء , فقال لقومه : لا يتبعْني رجل ملك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها , ولما يبنِ بها , ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها , ولا أحد اشترى غنماً أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر ولادها , فغزا فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك , فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور , اللهم احبسها علينا , فحُبِسَتْ حتى فتح الله عليه, فجمع الغنائم , فجاءت - يعني النار- لتأكلها فلم تطْعَمْها , فقال : إن فيكم غُلولا, فليبايعني من كل قبيلة رجل , فلَزِقَتْ يد رجل بيده , فقال : فيكم الغُلول , فليُبَايِعْني قبيلتك , فلَزِقَتْ يد رجلين أو ثلاثةٍ بيده , فقال :فيكم الغُلُول , فجاءوا برأسٍ مثل رأس بقرة من الذهب , فوضعوها فجاءت النار فأكلتها , ثم أحلَّ الله لنا الغنائم , رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)
هذه قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل , وهو نبي الله يوشع بن نون , الذي صحب موسى عليه السلام في حياته , وسار معه إلى الخضر , في القصة المعروفة في سورة الكهف , وبعد وفاة موسى عليه السلام أوحى الله إلى يوشع بن نون , واستخلفه على بني إسرائيل , وفتح على يده الأرض المقدسة .
وفي يوم من الأيام خرج هذا النبي غازياً لفتح إحدى القرى , فأراد ألا يخرج معه إلا من تفرغ من الشواغل , ولم يتعلق بأمر من أمور الدنيا , التي تعيق عن الجهاد والتضحية في سبيل الله , فأمر أن لا يتبعه في تلك الغزوة رجل عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها , ولا رجل مشغول ببناء لم يكمله , ولا رجل اشترى غنما أو نوقا حوامل وهو ينتظر أن تلد , فإن الذي انشغل بهذه الأمور وتعلق قلبه بها , ليس عنده استعداد لأن يثبت في أرض المعركة أو يجالد الأعداء , بل ربما كان سبباً للفشل والهزيمة .
فخرج متوجها نحو هذه القرية , فدنا منها وقت صلاة العصر أو قريبا منه , فلما رأى أن الوقت لا يتسع للقتال , وأن الليل قد يدخل عليه ولم ينه مهمته , خاطب الشمس قائلا : إنك مأمورة وأنا مأمور , ثم دعا الله عز وجل أن يحبسها عليهم , فتأخر غروبها حتى فتح الله عليهم .
وقد كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلنا , فكانت تجمع كلها في نهاية المعركة في مكان واحد , ثم تنزل نار من السماء , فتأكلها جميعا , وهي علامة قبول الله لتلك الغنائم , أما إذا لم تكن مقبولة فإن النار لا تأكلها , فجمعت غنائم تلك الغزوة , وجاءت النار فلم تأكلها , فعرف نبي الله يوشع أن هنالك غلولا , فأراد أن يعرف الغالَّ , فطلب أن يبايعه من كل قبيلة رجل , فلصقت يده بيد رجل من القبيلة التي فيها الغلول , فعرف أن الغالِّين هم من هذه القبيلة , وطلب أن يبايعه كل فرد من أفرادها على حدة , فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة هم أصحاب الغلول , فأمرهم بإحضار ما أخذوه , فجاءوا بقطعة كبيرة من الذهب على شكل رأس بقرة , فلما وضعت مع الغنائم جاءت النار فأكلتها .
وقد منَّ الله عز وجل على هذه الأمة ورحمها , لما رأى ضعفها وعجزها , فأحل لها الغنائم التي كانت محرمة على من قبلها من الأمم , وستر عنها أمر الغلول , وفضيحة عدم القبول , وهو من خصائص أمة محمد عليه الصلاة والسلام .
فهذه القصة تدل على قدرة الله تعالى , وتصرفه في هذا الكون , وتأييده لرسله وإعانته لهم على القيام بما أوكل إليهم من مهام , ومن خلالها يتبين لنا أن المهمات الكبرى , التى يرتبط بها مصير الأمة وعزها ونصرها , ينبغي ألا تفوَّض إلا لحازم فارغِ القلب لها , لأن المتعلق بأمور الدنيا , وشؤون الحياة والمعاش , ربما ضعف عزمه عن المواجهة والإقدام , والقلب إذا تفرق ضعُف فعل الجوارح , وإذا اجتمع قوي , نسأل الله أن يوفقنا لخدمة دينه وإعلاء كلمته , إنه جواد كريم .
قصة الثلاثة الذين آواهم الغار
قصة الأبرص والأقرع والأعمى التي تحدثنا عنها في موضوع سابق , تمثل نموذجاً لصنف من الناس عرف الله في حال الشدة والبلاء ولم يعرفه في حال الرخاء , وفي قصة أخرى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا آخر من الناس , على العكس من ذلك , عرفوا الله عز وجل عند النعمة والعافية , فعملوا بطاعة الله , وادخروا أعمالاً صالحة لتكون ذخرا لهم عند الحاجة إليها , فلما نزلت بهم الشدة والضر ,عرف الله لهم ذلك , فأنجاهم , وكشف ما بهم , بما سبق لهم من الخير والفضل والإحسان.
والقصة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر , فمالوا إلى غار في الجبل , فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل , فأطبقت عليهم , فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة , فادعوا الله بها لعله يفرجها , فقال أحدهم : اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران , ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم , فإذا رحت عليهم فحلبت , بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي , وإنه ناء بي الشجر , فما أتيت حتى أمسيت , فوجدتهما قد ناما , فحلبت كما كنت أحلب , فجئت بالحِلاب , فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما , وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما , والصبية يتضاغون عند قدمي , فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر , فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج لنا فرجة نرى منها السماء , ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء , وقال الثاني : اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء , فطلبت إليها نفسها , فأبت حتى آتيها بمائة دينار , فسعيت حتى جمعت مائة دينار , فلقيتها بها , فلما قعدت بين رجليها قالت : يا عبد الله , اتق الله ولا تفتح الخاتم , فقمت عنها , اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج لنا منها , ففرج لهم فرجة , وقال الآخر : اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفَرَقِ أَرُزٍّ , فلما قضى عمله قال : أعطني حقي , فعرضت عليه حقه , فتركه ورغب عنه , فلم أزل أزرعه , حتى جمعت منه بقرا وراعيها , فجاءني فقال : اتق الله ولا تظلمني , وأعطني حقي , فقلت : اذهب إلى ذلك البقر وراعيها , فقال : اتق الله ولا تهزأ بي , فقلت : إني لا أهزأ بك , فخذ ذلك البقر وراعيها , فأخذه فانطلق بها , فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرج ما بقي , ففرج الله عنهم) .
هذا الحديث يبين قصة ثلاثة رجال , خرجوا من ديارهم , وابتعدوا عنها , وبينما هم كذلك إذ نزل مطر غزير, فبحثوا عن مكان يحتمون فيه, فلم يجدوا إلا غارا في جبل فدخلوا فيه ، وكانت الأمطار من الغزارة بحيث جرفت السيول الصخور الكبيرة من أعلى الجبل ، فانحدرت صخرة من تلك الصخور حتى سدت عليهم باب الغار، فانقطعت بهم السبل , وأغلقت في وجوههم كل الأبواب والوسائل المادية , فهم لا يستطيعون تحريك هذه الصخرة فضلا عن دفعها وإزالتها , ولا يوجد سبيل إلى إيصال خبرهم إلى قومهم ، وحتى لو بحثوا عنهم فلن يصلوا إليهم ، فقد أزالت الأمطار والسيول آثار أقدامهم.
هنا يعلم العبد اضطرارا أنه لا يستطيع أن ينجيه مما هو فيه إلا الله عز وجل , الذي أحاط بكل شيء علما , والقادر على كل شيء , ولا يعجزه شيء , فهو الذي يعلم حاله , ويرى مكانه , ويسمع كلامه .
ولما وصلوا إلى هذه الحال من الاضطرار , أشار أحدهم على أصحابه أن يتوسل كل واحد منهم إلى ربه بأرجى عمل صالح عمله , وقصد فيه وجه الله , فتوسل الأول ببره بوالديه حال كبرهما وضعفهما , وأنه بلغ به بره بهما أنه كان يعمل في رعي المواشي , وكان إذا عاد إلى منزله بعد الفراغ من الرعي , يحلب مواشيه , فيبدأ بوالديه , فيسقيهما قبل أهله وأولاده الصغار , وفي يوم من الأيام , ابتعد في طلب المرعى , فلم يرجع إلى المنزل إلا بعد أن دخل المساء , وجاء بالحليب كعادته , فوجد والديه قد ناما , فكره أن يوقظهما من نومهما , وكره أن يسقي الصغار قبلهما , فبقي طوال الليل على هذه الحال, ممسكا بالإناء في يده , ينتظر أن يستيقظا , وأولاده يبكون عند رجليه , يريدون طعامهم, حتى طلع الفجر.
وتوسل الثاني بخوفه من الله , وعفته عن الحرام والفاحشة , مع قدرته عليها , وتيسر أسبابها , فذكر أنه كانت له ابنة عم يحبها حبا شديدا , فراودها عن نفسها مرارا , ولكنها كانت تأبى , حتى أصابتها حاجة ماسة في سنة من السنين , فاضطرت إلى أن توافقه على طلبه , على أن يدفع لها مبلغا من المال , تدفع به تلك الحاجة التي ألمت بها , فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته , تحرك في قلبها داعي الإيمان والخوف من الله , فذكرته بالله في هذا الموطن , فقام عنها خائفا وجلا , وترك المال الذي أعطاها.
وتوسل الثالث بأمانته وحفظه لحقوق الآخرين , فذكر أنه استأجر أجيرا ليعمل له عملا من الأعمال, وكانت أجرته شيئا من الأرز , فلما قضى الأجير عمله عرض عليه الرجل أجره , فتركه وزهد فيه , وبالرغم من أن ذمة الرجل قد برئت بذلك , إلا أنه حفظ له ماله وثمره ونماه , حتى أصبح مالا كثيرا , جمع منه بقرا مع راعيها , فجاءه الأجير بعد مدة طويلة , يطلب منه أجره الذي تركه , فأعطاه كل ما جمعه له من المال.
وكان كلما ذكر واحد منهم عمله انفرجت الصخرة قليلا ,حتى أتم الثالث دعاءه , فانفرجت الصخرة بالكلية وخرجوا يمشون.
إن هذه القصة تبين للمسلم طريق الخلاص , عندما تحيط به الكروب ، وتنزل به الملمات والخطوب , وينقطع حبل الرجاء من المخلوقين ، وتستنفد كل الوسائل والأسباب المادية, فإن هناك الباب الذي لا ينقطع منه الرجاء ، وهو باب السماء , والالتجاء إلى الله بالدعاء, فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء , فتبارك الله رب العالمين .
قصة الذي استلف ألف دينار
ما أحوج الإنسان في زمن طغت فيه المادة , وتعلق الناس فيه بالأسباب إلا من رحم الله , إلى أن يجدد في نفسه قضية الثقة بالله , والاعتماد عليه في قضاء الحوائج , وتفريج الكروب , فقد يتعلق العبد بالأسباب , ويركن إليها , وينسى مسبب الأسباب الذي بيده مقاليد الأمور , وخزائن السماوات والأرض , ولذلك نجد أن الله عز وجل يبين في كثير من المواضع في كتابه هذه القضية , كما في قوله تعالى : {وكفى بالله شهيدا} (الفتح 28) , وقوله : {وكفى بالله وكيلا } (الأحزاب 3) , وقوله : { أليس الله بكاف عبده } (الزمر 36) , كل ذلك من أجل ترسيخ هذا المعنى في النفوس , وعدم نسيانه في زحمة الحياة , وفي السنة قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجلين من الأمم السابقة , ضربا أروع الأمثلة لهذا المعنى .
والقصة رواها البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل , سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألف دينار , فقال : ائتني بالشهداء أُشْهِدُهُم , فقال : كفى بالله شهيدا , قال : فأتني بالكفيل , قال : كفى بالله كفيلا , قال : صدقت , فدفعها إليه إلى أجل مسمى , فخرج في البحر , فقضى حاجته , ثم التمس مركبا يركبها يقْدَمُ عليه للأجل الذي أجله , فلم يجد مركبا , فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار , وصحيفةً منه إلى صاحبه , ثم زجَّجَ موضعها , ثم أتى بها إلى البحر , فقال : اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلانا ألف دينار , فسألني كفيلا , فقلت : كفى بالله كفيلا , فرضي بك , وسألني شهيدا , فقلت : كفى بالله شهيدا , فرضي بك , وأَني جَهَدتُ أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له , فلم أقدِر , وإني أستودِعُكَها , فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه, ثم انصرف , وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده , فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله , فإذا بالخشبة التي فيها المال , فأخذها لأهله حطبا, فلما نشرها , وجد المال والصحيفة , ثم قَدِم الذي كان أسلفه , فأتى بالألف دينار , فقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه , قال : هل كنت بعثت إلي بشيء , قال : أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه , قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة , فانْصَرِفْ بالألف الدينار راشدا )
هذه قصة رجلين صالحين من بني إسرائيل , كانا يسكنان بلدا واحدا على ساحل البحر , فأراد أحدهما أن يسافر للتجارة , واحتاج إلى مبلغ من المال , فسأل الآخر أن يقرضه ألف دينار , على أن يسددها له في موعد محدد , فطلب منه الرجل إحضار شهود على هذا الدين , فقال له : كفى بالله شهيدا , فرضي بشهادة الله , ثم طلب منه إحضار كفيل يضمن له ماله في حال عجزه عن السداد , فقال له : كفى بالله كفيلا , فرضي بكفالة الله, مما يدل على إيمان صاحب الدين , وثقته بالله عز وجل , ثم سافر المدين لحاجته , ولما اقترب موعد السداد , أراد أن يرجع إلى بلده , ليقضي الدين في الموعد المحدد , ولكنه لم يجد سفينة تحمله إلى بلده , فتذكر وعده الذي وعده , وشهادةَ الله وكفالتَه لهذا الدين , ففكر في طريقة يوصل بها المال في موعده , فما كان منه إلا أن أخذ خشبة ثم حفرها , وحشى فيها الألف الدينار, وأرفق معها رسالة يبين فيها ما حصل له , ثم سوى موضع الحفرة , وأحكم إغلاقها , ورمى بها في عرض البحر , وهو واثق بالله , متوكل عليه , مطمئن أنه استودعها من لا تضيع عنده الودائع , ثم انصرف يبحث عن سفينة يرجع بها إلى بلده , وأما صاحب الدين , فقد خرج إلى شاطئ البحر في الموعد المحدد , ينتظر سفينة يقدُم فيها الرجل أو رسولا عنه يوصل إليه ماله , فلم يجد أحدا , ووجد خشبة قذفت بها الأمواج إلى الشاطئ , فأخذها لينتفع بها أهله في الحطب , ولما قطعها بالمنشار وجد المال الذي أرسله المدين له والرسالة المرفقة , ولما تيسرت للمدين العودة إلى بلده ,جاء بسرعة إلى صاحب الدين , ومعه ألف دينار أخرى , خوفا منه أن تكون الألف الأولى لم تصل إليه , فبدأ يبين عذره وأسباب تأخره عن الموعد , فأخبره الدائن بأن الله عز وجل الذي جعله الرجل شاهده وكفيله , قد أدى عنه دينه في موعده المحدد .
إن هذه القصة تدل على عظيم لطف الله وحفظه , وكفايته لعبده إذا توكل عليه وفوض الأمر إليه , وأثر التوكل على الله في قضاء الحاجات , فالذي يجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه على الدوام , وفي جميع الأحوال , والله عز وجل عند ظن العبد به , فإن ظن به الخير كان الله له بكل خير أسرع , وإن ظن به غير ذلك فقد ظن بربه.
قصة أصحاب الأخدود
قصة أصحاب الأخدود قصة عظيمة ، أشار الله عز وجل إليها في كتابه إشارة مختصرة - على طريقة القران في الإيجاز , وعدم الخوض في التفصيلات - ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل القصة وأحداثها في الحديث الذي رواه الإمام مسلمفي صحيحه عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان ملك فيمن كان قبلكم , وكان له ساحر , فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر , فبعث إليه غلاما يعلمه , فكان في طريقه إذا سلك راهب , فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه , فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه , فإذا أتى الساحر ضربه , فشكا ذلك إلى الراهب , فقال : إذا خشيتَ الساحر فقل : حبسني أهلي , وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر , فبينما هو كذلك , إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس , فقال : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل , فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس , فرماها فقتلها , ومضى الناس , فأتى الراهب فأخبره , فقال له الراهب : أي بني , أنت اليوم أفضل مني , قد بلغ من أمرك ما أرى , وإنك ستبتلى , فإن ابتليت فلا تدل علي , وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص , ويداوي الناس من سائر الأدواء , فسمع جليس للملك كان قد عمي , فأتاه بهدايا كثيرة , فقال ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني , فقال إني لا أشفي أحدا , إنما يشفي الله , فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك , فآمن بالله , فشفاه الله , فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس , فقال له الملك : من رد عليك بصرك , قال : ربي , قال : ولك رب غيري , قال : ربي وربك الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام , فجيء بالغلام , فقال له الملك : أي بني , قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص , وتفعل وتفعل , فقال : إني لا أشفي أحدا , إنما يشفي الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب , فجيء بالراهب , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فدعا بالمئشار , فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه , ثم جيء بجليس الملك , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه , ثم جيء بالغلام , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا , فاصعدوا به الجبل , فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه , فذهبوا به فصعدوا به الجبل , فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فرجف بهم الجبل فسقطوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك : ما فعل أصحابك , قال : كفانيهم الله , فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر , فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه , فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فانكفأت بهم السفينة فغرقوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك : ما فعل أصحابك , قال : كفانيهم الله , فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به , قال وما هو , قال : تجمع الناس في صعيد واحد , وتصلبني على جذع , ثم خذ سهما من كنانتي , ثم ضع السهم في كبد القوس , ثم قل : باسم الله رب الغلام , ثم ارمني , فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني , فجمع الناس في صعيد واحد , وصلبه على جذع , ثم أخذ سهما من كنانته , ثم وضع السهم في كبد القوس , ثم قال : باسم الله رب الغلام , ثم رماه , فوقع السهم في صُدْغِهِ , فوضع يده في صُدْغِهِ في موضع السهم فمات , فقال الناس : آمنا برب الغلام , آمنا برب الغلام , آمنا برب الغلام , فأُتِيَ الملكُ فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر , قد والله نزل بك حَذَرُكَ , قد آمن الناس , فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت , وأَضْرَمَ النيران , وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها , أو قيل له : اقتحم ففعلوا , حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها , فتقاعست أن تقع فيها , فقال لها الغلام : يا أُمَّهِ اصبري فإنك على الحق ) .
إنها قصة غلام نور الله بصيرته , وآتاه من الإيمان والثبات , والذكاء والفطنة , ما استطاع به أن يغير حال أمة بأكملها , وأن يزلزل عرش ذلك الطاغية المتجبر , الذي ادعى الألوهية من دون الله , فقد كان لهذا الملك ساحر يعتمد عليه في تثبيت ملكه , وإرهاب الناس لينصاعوا لأمره , فكبر سن هذا الساحر , وطلب من الملك أن يرسل له غلاما , ليرث علمه , ويخلفه في مهمته , وكان من إرادة الله الخير لهذا الغلام أن كان هو المرشح لهذه المهمة , وتعرف في أثناء ذهابه إلى الساحر وعودته من عنده على راهب مؤمن , دعاه إلى الإيمان والتوحيد فاستجاب له وآمن , ودله الراهب على ما يتخلص به من تأنيب الساحر وتأنيب أهله في حال تأخره عنهم , ثم أراد أن يزداد يقينا واطمئنانا بصحة ما دعاه إليه الراهب , فوجد الفرصة سانحة عندما اعترضت الدابة طريق الناس , ثم ذاع أمر الغلام واشتهر بين الناس , وأجرى الله على يديه الكرامات من شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص , وكان يتخذ من ذلك فرصة لدعوة الناس إلى التوحيد والإيمان , حتى وصل خبره إلى الملك عن طريق جليسه الذي دعا له الغلام فشفاه الله , وشعر الملك من كلام الوزير ببوادر فتنة تهدد عرشه , عندما صرح بالألوهية والربوبية لغيره , فأراد أن يعرف أصل هذه الفتنة ومصدرها , فوصل إلى الغلام ثم إلى الراهب عن طريق التعذيب , وأراد أن يصدهم عن ما هم عليه , فأبوا واحتملوا العذاب والقتل على الكفر بالله , وأما الغلام فلم يقتله قتلا مباشرا كما فعل مع الوزير والراهب ,
بل استخدم معه طرقا متعددة لتخويفه وإرهابه , طمعا في أن يرجع عن ما هو عليه , ويستفيد منه في تثبيت دعائم ملكه , وفي كل مرة ينجيه الله , ويعود إلى الملك عودة المتحدي , وكان الناس يتابعون ما يفعله الغلام خطوة بخطوة , ويترقبون ما سيصل إليه أمره ، فلما يئس الملك من قتله أخبره الغلام أنه لن يستطيع ذلك إلا بطريقة واحدة يحددها الغلام نفسه , ولم يكن الغلام يطلب الموت أو الشهادة , بل كان يريد أن يؤمن الناس كلهم , وأن يثبت عجز الملك وضعفه, في مقابل قدرة الله وقوته ، فأخبره أنه لن يستطيع قتله إلا إذا جمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على خشبة ، ثم أخذ سهمـًا - وليس أي سهم , بل سهمـًا من كنانة الغلام - ثم رماه به قائلاً : بسم الله رب الغلام .
فقام الملك بتطبيق قول الغلام ، ومات الغلام , وتحقق للملك ما أراد , وآمن الناس كلهم , فجن جنون الملك , وحفر لهم الأخاديد , وأضرم فيها النيران , ورضي الناس بالتضحية في سبيل الله , على الرغم من أنه لم يمض على إيمانهم إلا ساعات قلائل بعد الذي عاينوه من دلائل الإيمان , وشواهد اليقين , وأنطق الله الرضيع عندما تقاعست أمه عن اقتحام النار , وكانت آية ثبت الله بها قلوب المؤمنين .
إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة , فالحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ، ليست هي الميزان ، الذي يوزن به الربح والخسارة , والناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الان
قصة جريح العابد
كان في الأمم السابقة أولياء صالحون , وعباد زاهدون , وكان جريج العابد أحد هؤلاء الصالحين الذين برَّأهم الله عز وجل , وأظهر على أيديهم الكرامات , بعد أن تربص به المفسدون , وحاولوا إيقاعه في الفاحشة , ثم تشويه سمعته بالباطل , وهكذا أهل الفجور في كل زمان ومكان , لا يهنأ لهم بال , ولا يطيب لهم عيش إلا بأن يشاركهم الآخرون في غيهم وفسادهم , والقصة أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة , عيسى ابن مريم , وصاحب جريج , وكان جريج رجلا عابدا , فاتخذ صومعة فكان فيها, فأتته أمُّه وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : يا رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : يا جريج , فقال : أي رب أمي وصلاتي , فأقبل على صلاته , فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات .
فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته , وكانت امرأة بغي يُتَمثَّلُ بحسنها , فقالت : إن شئتم لأفْتِنَنَّه لكم , قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها, فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته , فأمكنته من نفسها , فوقع عليها , فحملت , فلما ولدت قالت : هو من جريج , فأتوه فاستنزلوه , وهدموا صومعته , وجعلوا يضربونه , فقال : ما شأنكم , قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك , فقال : أين الصبي , فجاءوا به , فقال : دعوني حتى أصلي , فصلى , فلما انصرف أتى الصبي فطَعَنَ في بطنه , وقال : يا غلام , من أبوك ؟ قال : فلان الراعي , قال : فأقبلوا على جريج يقَبِّلونه ويتمسحون به, وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب , قال : لا , أعيدوها من طين كما كانت , ففعلوا ) .
كان جريج في أول أمره تاجراً , وكان يخسر مرة ويربح أخرى , فقال : ما في هذه التجارة من خير , لألتمسن تجارة هي خير من هذه التجارة , فانقطع للعبادة والزهد , واعتزل الناس , واتخذ صومعة يترهَّب فيها , وكانت أمه تأتي لزيارته بين الحين والحين , فيطل عليها من شُرْفة في الصومعة فيكلمها , فجاءته في يوم من الأيام وهو يصلي , فنادته , فتردد بين تلبية نداء أمه وبين إكمال صلاته , فآثر إكمال الصلاة على إجابة نداء أمه , ثم انصرفت وجاءته في اليوم الثاني والثالث , فنادته وهو يصلي كما فعلت في اليوم الأول , فاستمر في صلاته ولم يجبها , فغضبت غضبا شديداً , ودعت عليه أن لا يميته الله حتى ينظر في وجوه الزانيات , ولو دعت عليه أن يفتن لفتن - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى لهذا الحديث - , فاستجاب الله دعاء الأم , وهيأ أسبابه , وعرضه للبلاء .
فقد تذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وزهده , فسمعت بذلك امرأة بغي يضرب الناس المثل بحسنها وجمالها , فتعهدت لهم بإغوائه وفتنته , فلما تعرضت له لم يأبه بها , وأبى أن يكلمها , ولم يعرها أي اهتمام , فازدادت حنقا وغيظا , حيث فشلت في ما ندبت نفسها له من فتنة ذلك العابد , فعمدت إلى طريقة أخرى تشوه بها سمعته , ودبرت له مكيدة عظيمة , فرأت راعياً يأوي إلى صومعة جريج , فباتت معه , ومكنته من نفسها , فزنى بها , وحملت منه في تلك الليلة , فلما ولدت ادَّعت بأن هذا الولد من جريج , فتسامع الناس أن جريجا العابد قد زنى بهذه المرأة , فخرجوا إليه , وأمروه بأن ينزل من صومعته , وهو مستمر في صلاته وتعبده , فبدءوا بهدم الصومعة بالفؤوس , فلما رأى ذلك منهم نزل إليهم , فجعلوا يضربونه ويشتمونه ويتهمونه بالرياء والنفاق , ولما سألهم عن الجرم الذي اقترفه , أخبروه باتهام البغي له بهذا الصبي , وساقوه معهم , وبينما هم في الطريق , إذ مروا به مروا به قريبا من بيوت الزانيات , فخرجن ينظرن إليه , فلما رآهن تبسم , ثم أمر بإحضار الصبي , فلما جاءوا به طلب منهم أن يعطوه فرصة لكي يصلي ويلجأ إلى ربه , ولما أتم صلاته جاء إلى الصبي , فطعنه في بطنه بإصبعه , وسأله والناس ينظرون , فقال له: من أبوك ؟ فأنطق الله الصبي بقدرته , وتكلم بكلام يسمعه الجميع ويفهمه , فقال : أبي فلان الراعي , فعرف الناس أنهم قد أخطئوا في حق هذا الرجل الصالح , وأقبلوا عليه يقبلونه ويتمسحون به , وأرادوا أن يكفروا عما وقع منهم تجاهه , فعرضوا عليه أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب , فرفض وأصر أن تعاد من الطين كما كانت , ثم سألوه عن السبب الذي أضحكه عندما مروا به من عند بيوت الزانيات , فقال : ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليَّ أمي .
إن قصة جريج مليئة بالعبر والعظات , فهي تبين لنا خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما , وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان , فكل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها هذا العبد الصالح , كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه , ومن فوائد القصة ضرورة أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد , والصلاة هي خير ما يُفْزع إليه عند الكرب , ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة , وأن الله ينجي العبد ويجعل له فرجاً ومخرجاً , بصلاحه وتقواه كما أنجى جريجا وبرأه مما نسب إليه .
ومن الفوائد التي لها علاقة بالواقع , أن الماضين كانوا يعتبرون مجرد النظر إلى وجوه المومسات نوعاً من البلاء والعقوبة , ولهذا دعت أم جريج على ابنها بتلك العقوبة , فكيف بحالنا في هذا العصر الذي انفتح الناس فيه على العالم انفتاحا شديدا , عبر وسائل الاتصال الحديثة , وعرضت المومسات على الناس صباح مساء عبر أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية وعبر شبكة الإنترنت , ولا شك أن ذلك من العقوبات العامة التي تستوجب من المسلم أن يكون أشد حذرا على نفسه من الوقوع في فتنة النظر الحرام , فضلا عن مقارفته وارتكاب الفاحشة والعياذ بالله .
وهكذا ظهر لنا أن الابتلاء فيه خير للعبد في دنياه وأخراه , إذا صبر وأحسن الظن بالله, فجريج كان بعد البلاء أفضل عند الله وعند الناس منه قبل الابتلاء
قصة الذي قتل مائة نفس
يحيط بابن آدم أعداء كثيرون من شياطين الإنس والجن, والنفس الأمارة بالسوء, وهؤلاء الأعداء يحسنون القبيح , ويقبحون الحسن ، ويدعون الإنسان إلى الشهوات , ويقودونه إلى مهاوي الردى, لينحدر في موبقات الذنوب والمعاصي .
ومع وقوع المعصية من ابن آدم فقد يصاحبه ضيق وحرج , وشعور بالذنب والخطيئة, فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل, ويدخل في دائرة اليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, ولكن الله العليم الحكيم , الرؤوف الرحيم ، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير, فتح لعباده أبواب التوبة, وجعل فيها ملاذاً مكيناً, وملجأ حصيناً، يَلِجُه المذنب معترفاً بذنبه, مؤملاً في ربه, نادماً على فعله, غير مصرٍ على خطيئته، فيكفر الله عنه سيئاته, ويرفع من درجاته .
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته , والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا , فسأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على راهب , فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا , فهل له من توبة , فقال : لا , فقتله فكمل به مائة , ثم سأل عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل عالم , فقال : إنه قتل مائة نفس , فهل له من توبة, فقال : نعم , ومن يحول بينه وبين التوبة , انطلق إلى أرض كذا وكذا , فإن بها أناسا يعبدون الله , فاعبد الله معهم , ولا ترجع إلى أرضك , فإنها أرض سوء , فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب , فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله , وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط , فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي , فجعلوه بينهم , فقال : قيسوا ما بين الأرضين , فإلى أيتهما كان أدنى فهو له , فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد , فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : فقال الحسن : ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ).
هذه قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات , حتى قتل مائة نفس , وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق , ومع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال عنده من الرغبة في عفو الله ومغفرته ,ما دعاه إلى أن يبحث عمن يفتيه في أمره , ويفتح له أبواب الأمل , ولم يسأل عن أي عالم , بل سأل عن أعلم أهل الأرض , فدلوه على رجل راهب كثير العبادة قليل العلم , فأخبره بما كان منه , فاستعظم الراهب ذنبه , وقنَّطه من رحمة الله , وازداد الرجل غيّاً إلى غيِّه عندما أخبره أن التوبة محجوبة عنه , فقتله ليتم به المائة .
وبعد قتله للراهب لم ييأس , ولم يقتنع بما قاله له , فسأل مرة أخرى عن أعلم أهل الأرض , فدُلَّ على رجل , وكان عالما بالفعل , فسأله القاتل ما إذا كان يمكن أن تكون له توبة بعد كل الذي فعله , فقال له العالم مستنكرا ومستغربا : ومن يحول بينك وبين التوبة , وكأنه يقول : إنها مسألة بدهية لا تحتاج إلى كثير تفكير أوسؤال , فباب التوبة مفتوح , والله عز وجل لا يتعاظمه ذنب , ورحمته وسعت كل شيء , وكان هذا العالم مربيا حكيما , فلم يكتف بإخباره بأن له توبة , بل دله على الطريق الموصل إليها , وهو تغيير البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها , ومفارقة الرفقة السيئة التي تعينه على الفساد, وتزين له الشر , فأمره بأن يترك أرض السوء , ويهاجر إلى أرض أخرى فيها أقوام صالحون يعبدون الله تعالى , وكان الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة , وخرج قاصدا تلك الأرض , ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله , فابتعد بصدره جهة الأرض الطيبة مما يدل على صدقه في التوبة حتى وهو في النزع الأخير , , فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ,كل منهم يريد أن يقبض روحه , فقالت ملائكة العذاب إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا أبدا , وقالت ملائكة الرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله , فأرسل الله لهم ملكا في صورة إنسان , فأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين , الأرض التي جاء منها , والأرض التي هاجر إليها , فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب , وأرض الشر والفساد أن تتباعد , فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر , فتولت أمره ملائكة الرحمة , وغفر الله له ذنوبه العظيمة كلها .
إن هذه القصة تفتح أبواب الأمل لكل عاص , وتبين سعة رحمة الله , وقبوله لتوبة التائبين, مهما عظمت ذنوبهم وخطاياهم , إذا صدق الإنسان في طلب التوبة , وسلك الطرق والوسائل التي تعينه عليها , ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله , فقد ظن بربه ظن السوء, فعلى العبد أن لا ييأس من رحمة الله , وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب , فكذلك القنوط من رحمة الله , قال عز وجل : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } (يوسف: 87)